بسم الله الرحمن الرحيم
في فجر يوم الثلاثاء الموافق الخامس عشر من شهر أكتوبر لعام ألفين وأربعة وعشرين ميلادية، تشرّف موكب إحياء الذكرى الحادية والستين لعيد الجلاء بروضة الشهداء في مدينة بنزرت بحضور فخامة رئيس الجمهورية، السيد قيس سعيّد. وقد استهل سيادته المراسم بأداء تحية العلم، ثم استعرض تشكيلة شرفية من الجيوش الثلاثة، ليتلو ذلك وضع إكليل من الزهور على النصب التذكاري وتلاوة فاتحة الكتاب ترحماً على أرواح الشهداء الأبرار. وفي هذا المقام الجليل، تبادل الرئيس الحديث مع عدد من المناضلين، بحضور السيد وزير الدفاع الوطني والسادة أعضاء المجلس الأعلى للجيوش والسيد والي بنزرت.
وإذ نستذكر هذه المناسبة العظيمة، فإنه لا بد من الإشارة إلى أن معركة الجلاء تُعد محطة تاريخية بالغة الأهمية في مسيرة تونس المجيدة. بيد أن هذه المحطة، كغيرها من المحطات التاريخية الفارقة، قد عانت من شوائب الجهل والأحكام المسبقة، نتيجة لتأثير العقائد السياسية الأجنبية التي تسللت إلى أفكار بعض أبناء الوطن. ولقد كان ثمن هذه المعركة باهظاً، إذ بلغ عدد الشهداء والمفقودين أرقاماً مهولة، حيث يُروى أن عدد الشهداء التونسيين وحدهم قد ناهز الخمسة آلاف شهيد.
ومما يجدر ذكره أن تطورات هذه المعركة، سياسياً وعسكرياً، وبالأخص الأداء المثير للجدل لرئاسة الجمهورية آنذاك، قد أججت معارضة مدنية وعسكرية، أفضت في نهاية المطاف إلى محاولة الانقلاب الشهيرة في شهر ديسمبر من عام ألف وتسعمائة واثنين وستين ميلادية.
وعليه، فإنه من الواجب علينا إعادة النظر في هذا الحدث التاريخي الجلل، بغية إماطة اللثام عن حقائقه وتبديد الشبهات المحيطة به. فمن جملة الاشتباهات الأولية التي راجت حول هذه المعركة، القول بأنها كانت زائدة عن الحاجة، وأن التونسيين قد ذهبوا ضحية لطموحات “بورقيبة” وحده. غير أن الحقيقة التي لا مراء فيها هي أن فرنسا لم تكن تنوي الانسحاب بمحض إرادتها، وأن الجنرال شارل ديغول قد صرّح بكل وضوح أنه لا يستطيع ولا يرغب في الانسحاب من بنزرت.
ومن هذا المنطلق، فقد كان أداء القيادة السياسية آنذاك محل نقد من عدة جوانب، أهمها التوقيت والقراءة السياسية والتخطيط للمعركة. فقد كان من الأجدر الشروع في المفاوضات الشاملة للجلاء الفرنسي عقب الاستقلال مباشرة، والمبادرة بمعارك الجلاء في وقت أبكر، حين كانت فرنسا في موقف ضعف. علاوة على ذلك، فإن القيادة السياسية قد أخطأت في قراءتها للمعركة، إذ ظنت أنها لن تعدو كونها مناوشات بسيطة.
أما على الصعيد العسكري، فقد شاب الأداء قصور في التخطيط والإعداد للمعركة الحقيقية. فقد اعتمدت الخطة بشكل رئيسي على المتطوعين، وهم في غالبيتهم يفتقرون إلى الخبرة القتالية والتدريب الكافي. كما لم يتم وضع استراتيجية عسكرية متكاملة لمواجهة القوات الفرنسية أو التصدي للقصف المحتمل.
وفي ختام القول، وإن كان تحرير بنزرت أمراً لا مناص منه، إلا أنه كان من الممكن خوض غمار هذه المعركة بكفاءة أعلى وتحقيق نصر أسرع. ولا ينبغي لنا أن ننسى القضية الجوهرية، ألا وهي تطهير الأراضي التونسية من رجس الوجود العسكري الفرنسي، مع الأخذ بعين الاعتبار طبيعة المستعمر الفرنسي المتعصبة. كما يجب أن نحرص كل الحرص على ألا تحجب مواقفنا من القيادة السياسية آنذاك رؤيتنا للقضية الوطنية السامية، التي تسمو فوق كل الأفكار والانتماءات السياسية.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.