شهدت العاصمة الليبية طرابلس مؤخراً تطورات أمنية متسارعة تعكس تعقيدات المشهد السياسي والعسكري في البلاد. وتأتي هذه الأحداث في ظل استمرار التنافس الدولي والإقليمي على النفوذ في ليبيا، وخاصة بعد تطور العلاقات بين تركيا وإيطاليا ودورهما المتزايد في غرب البلاد.
الاتفاقيات الإيطالية-التركية وتأثيرها على المشهد الليبي
في الأشهر الأخيرة، شهدت العلاقات الإيطالية-التركية تطوراً ملحوظاً في الملف الليبي، حيث وقعت الدولتان سلسلة من الاتفاقيات الاستراتيجية التي تعزز نفوذهما في غرب ليبيا. وتشمل هذه الاتفاقيات:
- اتفاقيات اقتصادية: تتعلق بالاستثمار في مجالات الطاقة والبنية التحتية والموارد الطبيعية في المناطق الغربية من ليبيا.
- تعاون أمني: تنسيق مشترك بين إيطاليا وتركيا لدعم القوات الأمنية التابعة لحكومة الوحدة الوطنية في طرابلس.
- اتفاقيات سياسية: دعم سياسي مشترك لحكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد دبيبة في مواجهة منافسيها، وخاصةً حكومة الشرق المدعومة من روسيا ومصر.
هذه الاتفاقيات منحت دبيبة زخماً دبلوماسياً وسياسياً كبيراً، ووفرت له الدعم اللازم لتعزيز موقفه الداخلي وتقوية سلطته في العاصمة والمناطق الغربية من البلاد.
دبيبة يستثمر الدعم الخارجي لمواجهة خصومه الداخليين
استغل رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد دبيبة الدعم الإيطالي-التركي لاتخاذ خطوات جريئة ضد خصومه المحليين، وقد تمثل ذلك في العملية العسكرية الأخيرة التي نفذتها قوات تابعة لوزارة الدفاع في حكومته، مستهدفةً مقرات جهاز الدعم والاستقرار الذي يعد من المجموعات المسلحة المنافسة لسلطته.
وقد أعلنت وزارة الدفاع في حكومة الوحدة الوطنية فجر يوم الثلاثاء انتهاء هذه العملية العسكرية بنجاح، حيث أسفرت عن:
- سيطرة قوات وزارة الدفاع على مقرات جهاز الدعم والاستقرار
- تحرير محتجزين كانوا موجودين في سجون وصفت بأنها “سرية”
- سقوط عدد من القتلى لم يتم الكشف عن عددهم بشكل رسمي
تشير هذه العملية إلى أن دبيبة يسعى إلى ترسيخ سيطرته على العاصمة وتوحيد المجموعات المسلحة تحت قيادته، مستفيداً من الدعم الذي توفره له الاتفاقيات مع إيطاليا وتركيا.
التطورات الأمنية في طرابلس: ضربة استباقية أم مناورة سياسية؟
يرى محللون أن العملية العسكرية الأخيرة في طرابلس تمثل محاولة من دبيبة لتوجيه ضربة استباقية لخصومه قبل أن يتمكنوا من حشد قواتهم واستغلال الانقسامات الداخلية. وفي هذا السياق، يمكن اعتبار هذه العملية جزءاً من استراتيجية أوسع لدبيبة تهدف إلى:
- تقويض نفوذ المجموعات المسلحة المنافسة: عبر استهداف مقراتها وإضعاف قدراتها العسكرية.
- إرسال رسالة واضحة للداعمين الخارجيين: وخاصة روسيا وحلفاءها في شرق ليبيا، بأن حكومة الوحدة الوطنية قادرة على حسم الصراع لصالحها.
- تعزيز شرعيته الداخلية: من خلال إظهار قدرته على فرض الأمن وبسط سيطرة الدولة على المجموعات المسلحة.
الدور الإيطالي-التركي في تمكين دبيبة
تلعب الاتفاقيات الإيطالية-التركية دوراً محورياً في تعزيز قدرات دبيبة العسكرية والأمنية. فوفقاً لمصادر مطلعة، تشمل هذه الاتفاقيات:
- دعم لوجستي وفني: لقوات وزارة الدفاع التابعة لحكومة الوحدة الوطنية.
- تدريب عسكري: لوحدات خاصة مكلفة بمكافحة الإرهاب وفرض الأمن في العاصمة.
- تبادل معلومات استخباراتية: تساعد في رصد تحركات الجماعات المسلحة المنافسة.
هذا الدعم مكّن دبيبة من تنفيذ عمليات عسكرية ناجحة ضد خصومه، وعزز من موقفه كشريك موثوق لإيطاليا وتركيا في المنطقة.
استراتيجية دبيبة لتوحيد الغرب الليبي
تعكس التطورات الأمنية الأخيرة في طرابلس استراتيجية واضحة لدبيبة تهدف إلى:
- توحيد الغرب الليبي تحت سلطته: عبر دمج المجموعات المسلحة ضمن هيكل رسمي تابع للدولة.
- تأمين العاصمة وضواحيها: لضمان استمرار عمل المؤسسات الحكومية وتدفق الاستثمارات.
- بناء قوة عسكرية موالية: قادرة على مواجهة أي تهديدات محتملة من القوات المدعومة من الشرق.
وقد نجح دبيبة حتى الآن في تحقيق تقدم ملموس على هذه الجبهات، مستفيداً من الدعم الإيطالي-التركي ومن الانقسامات بين خصومه.
التداعيات الإقليمية للتحالف الإيطالي-التركي في ليبيا
يثير التحالف الإيطالي-التركي وتمكين دبيبة قلق القوى الإقليمية المنافسة، خاصة مصر وروسيا والإمارات، التي تدعم الحكومة المنافسة في شرق ليبيا. وقد استدعى هذا التطور ردود فعل من هذه الدول، تمثلت في:
- تعزيز الدعم للمشير خليفة حفتر: قائد الجيش الوطني الليبي في الشرق.
- زيادة الضغط الدبلوماسي: عبر المحافل الدولية للطعن في شرعية حكومة الوحدة الوطنية.
- محاولات تفكيك التحالف الإيطالي-التركي: من خلال عرض صفقات اقتصادية مغرية على إيطاليا.
إلا أن هذه الجهود لم تنجح حتى الآن في إضعاف التحالف الإيطالي-التركي أو في زعزعة استقرار حكومة دبيبة، الذي يبدو أنه يزداد قوةً يوماً بعد يوم.
المستقبل السياسي لليبيا في ظل التدخلات الإقليمية
تعكس التطورات الأمنية الأخيرة في طرابلس، وخاصة في ظل الاتفاقيات الإيطالية-التركية، تعقيدات المشهد الليبي وتداخل العوامل الداخلية مع التدخلات الخارجية. ويبدو أن دبيبة نجح حتى الآن في استغلال هذه التدخلات لصالحه، مستخدماً الدعم الخارجي لتعزيز موقفه الداخلي وتوجيه ضربات موجعة لخصومه.
إلا أن استمرار هذا النجاح مرهون بقدرته على تحقيق توازن دقيق بين مصالح الداعمين الخارجيين من جهة، وتطلعات الليبيين نحو الاستقرار والوحدة من جهة أخرى. كما أن التطورات المستقبلية ستعتمد بشكل كبير على مدى قدرة التحالف الإيطالي-التركي على الصمود في وجه الضغوط الإقليمية والدولية المضادة.
وفي المحصلة، يبدو أن ليبيا لا تزال ساحة للتنافس الإقليمي والدولي، حيث تستمر التدخلات الخارجية في تشكيل المشهد السياسي والأمني في البلاد، في ظل غياب رؤية وطنية جامعة قادرة على تحقيق المصالحة وإعادة بناء الدولة الليبية على أسس سليمة.