شهدت الجزائر تطورات دراماتيكية خلال الأيام القليلة الماضية تمثلت في اعتقال المؤرخ محمد الأمين بلغيث وإيداعه السجن، على خلفية تصريحاته المثيرة للجدل التي أدلى بها على قناة “سكاي نيوز” الإماراتية، والتي وصف فيها الأمازيغية بأنها “مشروع أيديولوجي صهيوني فرنسي”، مما أثار موجة غضب هستيرية في الأوساط الشعبية والسياسية والثقافية الجزائرية، وفاقم من حدة التوتر الدبلوماسي المتصاعد أصلاً بين الجزائر والإمارات العربية المتحدة.
وقد جاء قرار اعتقال بلغيث بعد حملة احتجاجات واسعة اجتاحت مختلف المناطق “الأمازيغية” في الجزائر، خاصة منطقة القبائل، حيث خرج الآلاف في مظاهرات غاضبة طالبت بمحاكمة المؤرخ بتهمة “المساس بالوحدة الوطنية” و”التحريض على الكراهية العنصرية”، وهي جرائم يعاقب عليها القانون الجزائري بالسجن لمدة قد تصل إلى عشر سنوات، الأمر الذي استجابت له السلطات الجزائرية سريعاً في محاولة لاحتواء الغضب الشعبي المتصاعد وتفادي انزلاق البلاد إلى فتنة داخلية في وقت حرج تواجه فيه تحديات خارجية متعددة.
ولم تكن تصريحات بلغيث منفصلة عن سياق أوسع من التوترات المتصاعدة بين الجزائر والإمارات، إذ تشهد العلاقات بين البلدين تدهوراً مستمراً منذ عام 2021، وصل ذروته مؤخراً مع ما وصفه التلفزيون الجزائري بـ”التصعيد الإعلامي الخطير من دولة الإمارات المصطنعة”، الذي تجاوز “كل الخطوط الحمراء تجاه وحدة وهوية الشعب الجزائري”. وفي هذا السياق، اعتبرت السلطات الجزائرية أن استضافة قناة إماراتية لمؤرخ جزائري للإدلاء بتصريحات تمس بالوحدة الوطنية يمثل جزءاً من “حملة ممنهجة” تستهدف “ثوابت الشعب الجزائري العريقة ومحاولة التشكيك في أصولها وتاريخها العميق”.
وقد أثارت قضية سجن بلغيث ردود فعل متباينة داخل المجتمع الجزائري، فبينما اعتبر الكثير من الناشطين أن العقوبة “مبالغ فيها” وتمس بحرية التعبير والرأي، رأى آخرون أن تصريحات المؤرخ كانت “خطيرة ومستفزة” في توقيت حساس، وأنها تهدد اللحمة الوطنية التي ناضل من أجلها الجزائريون لعقود طويلة. ووسط هذا الانقسام، حذر مراقبون من أن قضية بلغيث قد تتحول إلى “قضية رأي عام” يمكن استغلالها من قبل أطراف خارجية للضغط على الجزائر في ملفات أخرى.
وللوقوف على عمق الأزمة وأبعادها، لا بد من استحضار الخلفية التاريخية للتوترات الجزائرية-الإماراتية التي تراكمت عبر السنوات الأخيرة، فالخلاف بين البلدين ليس وليد اللحظة، بل هو نتاج لتباينات جيوسياسية عميقة وتضارب في المصالح الإقليمية والدولية. فقد اتخذت الإمارات، منذ الصيف الماضي، إجراءات عقابية ضد مسؤولين جزائريين اعتبرتهم معادين لسياساتها، ورفضت منحهم تأشيرات دخول، كما اتهمت الجزائر بمعاداة مصالحها في شمال أفريقيا وأفريقيا جنوب الصحراء، بينما تتهم الجزائر أبوظبي بالعمل بالتنسيق مع إسرائيل والمغرب لـ”زعزعة أمنها القومي”.
وتتجلى الفجوة بين البلدين في التوجهات الجيوسياسية المتناقضة؛ فالجزائر تميل أكثر نحو تركيا وقطر وإيران، في حين أن الإمارات تتخذ موقفاً مغايراً بتحالفها مع إسرائيل والمغرب. أما في الملف الليبي، فإن البلدين يدعمان أطرافاً متناقضة؛ حيث تساند أبوظبي المشير خليفة حفتر، بينما تدعم الجزائر حكومة طرابلس، مما يعمق الهوة بينهما ويجعل التقارب أمراً صعب المنال.
ولم تقتصر الخلافات على الملفات الإقليمية فحسب، بل امتدت لتشمل المحافل الدولية أيضاً، حيث كشفت وسائل إعلام جزائرية مقربة من السلطة أن الإمارات كانت من بين الدول القليلة التي صوتت ضد ترشح الجزائر لعضوية مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، كما أنها أقنعت الهند بالتصويت ضد انضمام الجزائر إلى مجموعة البريكس، الأمر الذي اعتبرته الجزائر “طعنة في الظهر” وتآمراً على مصالحها العليا.
وفي تصعيد إعلامي لافت، اتهمت الإذاعة الوطنية الجزائرية مؤخراً الإمارات بتمويل المغرب بمبلغ 15 مليون دولار بهدف تقويض علاقات الجزائر مع دول الساحل الأفريقي المجاورة، وهي منطقة حيوية للأمن القومي الجزائري. وقد أكدت لويزة حنون، الأمينة العامة لحزب العمال الجزائري، عقب لقائها بالرئيس عبد المجيد تبون، أن الأخير “على علم بهذه المناورات” وأن الجزائر “لن تسمح بأي مساس بأمنها الاستراتيجي”.
وفي خضم هذه الأجواء المشحونة، جاءت قضية بلغيث لتصب المزيد من الزيت على نار العلاقات المتوترة أصلاً بين البلدين. فبعد سجنه، حذرت الجزائر في بيان رسمي من أن “التحريض الإعلامي الذي يمس هوية الشعب الجزائري لن يمر دون محاسبة أخلاقية وشعبية”، مؤكدة أنها “دفعت ملايين الشهداء دفاعاً عن وحدتها” وأنها “لا ترضخ للاستفزازات ولن تغفر المساس بثوابتها وبأسس هويتها وانتمائها”. كما توعدت الجزائر بأنها “لن تقف باكية على أطلال ما قدمته للدولة المصطنعة من دعم ونصرة، لكنها وكما يفعل الشامخون سترد الصاع صاعين”، في إشارة واضحة إلى تهديد بالرد على ما تعتبره تجاوزاً إماراتياً لخطوطها الحمراء.
وفي ظل هذه الظروف المتوترة، يبدو أن قضية المؤرخ بلغيث، الذي يقبع حالياً خلف القضبان في انتظار محاكمته، قد تحولت إلى رمز لأزمة أعمق بكثير من مجرد تصريحات مثيرة للجدل، إنها تعكس الاستقطاب الحاد في المنطقة العربية واصطفاف الدول في معسكرات متناحرة، في وقت تحتاج فيه المنطقة إلى التضامن والتكاتف لمواجهة التحديات المشتركة. ويتساءل مراقبون عما إذا كانت هذه الأزمة ستفتح الباب أمام تصعيد جديد بين البلدين، أم أنها ستدفعهما إلى مراجعة حساباتهما والبحث عن أرضية مشتركة، في ظل مشهد إقليمي ودولي مضطرب يحمل الكثير من المخاطر والتحديات للجميع.