شهدت العلاقات الاقتصادية التونسية-الأفريقية خطوة مهمة بتوقيع اتفاقية انضمام تونس إلى وكالة تأمين التجارة والاستثمار بإفريقيا “ATIDI”، وذلك يوم الاثنين، 24 مارس 2025. وقد تحققت هذه الخطوة بفضل تمويل قدره 10.5 مليون يورو مقدمة من الحكومة الألمانية عبر البنك الألماني للتنمية KfW، مما يثير تساؤلات جوهرية حول دوافع هذا الدعم الألماني وتأثيره على الاقتصاد التونسي. فلماذا تستثمر ألمانيا هذا المبلغ الكبير لضمان انضمام تونس إلى هذه الوكالة الأفريقية؟
بموجب هذه الاتفاقية، أصبحت تونس العضو الخامس والعشرين عالميًا والأول في شمال إفريقيا ضمن هذه المؤسسة الإفريقية، مما يتيح لها الوصول إلى مجموعة واسعة من أدوات التأمين والضمان التي من شأنها تعزيز الاستثمارات وتنشيط التجارة وخفض تكاليف المخاطر. كما تم توقيع مذكرة تفاهم تمنح تونس إمكانية الوصول إلى مرفق دعم السيولة الإقليمي (RLSF)، وهو مرفق ضمان يهدف أساساً إلى خدمة المستثمرين الأجانب.
ما هي وكالة تأمين التجارة والاستثمار الأفريقية (ATIDI)؟
تعمل وكالة تأمين التجارة والاستثمار الأفريقية كمحفز رئيسي للتجارة والاستثمار في القارة الأفريقية، حيث تقدم خدمات تأمين ضد المخاطر التجارية والاستثمارية للمستثمرين الأجانب الراغبين في دخول الأسواق الأفريقية. تسهل الوكالة استقطاب الاستثمارات الأجنبية من خلال توفير الحماية ضد مخاطر متعددة، بما فيها المخاطر السياسية والاقتصادية والتجارية.
وتلعب ATIDI دوراً محورياً كأداة فعالة لتخفيف المخاطر التجارية في أفريقيا، وتساهم بشكل كبير في تنفيذ اتفاقية التجارة الحرة القارية الأفريقية (AfCFTA)، كما تدعم عملية إنعاش الاقتصادات الأفريقية في مواجهة احتمالات الركود الاقتصادي العالمي. من خلال آليات الضمان والتأمين التي توفرها، تساعد الوكالة على جذب المزيد من الاستثمارات وزيادة التدفقات التجارية بين الدول الأفريقية والعالم.
التمويل الألماني: استغلال للأيدي العاملة الرخيصة ؟
يثير التمويل الألماني البالغ 10.5 مليون يورو لانضمام تونس إلى ATIDI تساؤلات حول المصالح الاقتصادية الألمانية الحقيقية في تونس. فالمستثمرون الألمان، شأنهم شأن معظم المستثمرين الغربيين، ينجذبون بشكل أساسي إلى تونس بسبب انخفاض تكلفة اليد العاملة مقارنة بأوروبا.
تتمتع تونس بثروة بشرية مؤهلة وبأجور منخفضة نسبياً، مما يجعلها وجهة مثالية للشركات الألمانية التي تسعى إلى خفض تكاليف الإنتاج. من خلال تمويل انضمام تونس إلى هذه الوكالة، تضمن ألمانيا حماية استثماراتها في البلاد وتقليل المخاطر المرتبطة بها، مما يتيح لشركاتها الاستفادة من الأيدي العاملة التونسية الرخيصة والمدربة في مجالات متعددة، خاصة في قطاعات التصنيع والخدمات.
تستثمر الشركات الألمانية في تونس بهدف إنشاء وحدات إنتاجية ذات تكلفة منخفضة، تُصدر منتجاتها بعد ذلك إلى أوروبا أو إلى أسواق أخرى. وبهذه الطريقة، تحافظ على تنافسيتها العالمية وتحقق أرباحاً أكبر، في حين تبقى القيمة المضافة الحقيقية والتكنولوجيا المتقدمة في ألمانيا.
استراتيجية اقتصادية تونسية تحتاج إلى إعادة النظر
تكشف هذه الاتفاقية عن خلل عميق في الاستراتيجية الاقتصادية التونسية، التي ما زالت تراهن على جذب الاستثمارات الأجنبية كحل سحري للمشاكل الاقتصادية، بدلاً من تركيز الجهود على تحرير الطاقات الاقتصادية المحلية ودعم المستثمر التونسي.
تعاني تونس من منظومة قانونية معقدة وبيروقراطية ثقيلة تعرقل المبادرة الاقتصادية المحلية، في حين تُقدم تسهيلات وحوافز كبيرة للمستثمرين الأجانب. هذه المفارقة تضع المستثمر التونسي في وضعية غير متكافئة، وتحرم الاقتصاد من إمكانيات النمو الذاتي المستدام.
مثال ذلك، أن نظام النقد والصرف التونسي يفرض قيوداً مشددة على المستثمرين التونسيين سواء داخل البلاد أو في الخارج، بينما يتمتع المستثمر الأجنبي بحرية أكبر في تحويل الأرباح والرساميل. كما أن إجراءات بعث المشاريع وتمويلها لا تزال معقدة وطويلة بالنسبة للتونسيين، في حين توفر إجراءات مبسطة ومسرعة للأجانب.
خاتمة: نحو توازن بين الاستثمار الأجنبي والوطني
إن انضمام تونس إلى وكالة تأمين التجارة والاستثمار الأفريقية قد يحمل بعض الفرص للاقتصاد التونسي، لكن الخطر يكمن في استمرار النموذج الاقتصادي القائم على تفضيل الاستثمار الأجنبي على حساب الوطني. يتطلب تحقيق تنمية مستدامة وشاملة إعادة التوازن إلى العلاقة بين الاستثمار الأجنبي والمحلي، بحيث يصبح الأول مكملاً للثاني وليس بديلاً عنه.
على صناع القرار في تونس إدراك أن الاعتماد المفرط على الاستثمارات الأجنبية، وخاصة تلك التي تستهدف الاستفادة من انخفاض الأجور، لن يؤدي إلى نمو حقيقي ومستدام. بل إن الطريق نحو التنمية الحقيقية يمر عبر إطلاق الطاقات الاقتصادية الوطنية وتحرير المبادرة المحلية، مع وضع استراتيجية واضحة تضمن الاستفادة القصوى من الشراكات الخارجية دون الوقوع في فخ التبعية الاقتصادية.