تشهد العلاقات بين الجزائر ومالي تدهوراً غير مسبوق في الآونة الأخيرة، وهو ما يعكس تحولاً جذرياً في سياسة الجزائر الإقليمية. وقد بلغت الأزمة ذروتها مؤخراً مع تبادل الاتهامات بين البلدين بعد إعلان الجزائر إسقاط طائرة مسيرة مسلحة قالت إنها اخترقت مجالها الجوي، وهو ما نفته مالي بشدة.
جذور الأزمة وتطوراتها
تعود بذور التوتر بين البلدين إلى الانقلاب العسكري في مالي عام 2021، حيث استولى العقيد أسيمي غويتا على السلطة، وتبنى سياسة خارجية مغايرة للتوجهات السابقة. فبعد أن كانت مالي تعتمد بشكل كبير على الدعم الفرنسي والغربي في مواجهة الإرهاب، اتجهت الحكومة الانتقالية نحو تعزيز العلاقات مع روسيا، وأمرت بخروج القوات الفرنسية من أراضيها، واستعانت بمجموعة فاغنر الروسية لمكافحة الجماعات المسلحة.
وفي هذا السياق، عرضت الجزائر القيام بدور الوساطة لحل الأزمة المالية، واستضافت محادثات السلام بين الحكومة المالية والجماعات المسلحة. إلا أن هذه الجهود باءت بالفشل مع رفض الحكومة الانتقالية في باماكو لاتفاق الجزائر للسلام والمصالحة الموقع عام 2015، واتهامها الجزائر بالتدخل في شؤونها الداخلية ودعم الجماعات المسلحة في شمال مالي.
التقارب الفرنسي-الجزائري والتأثير على العلاقات الإقليمية
في المقابل، شهدت العلاقات الفرنسية-الجزائرية تحسناً ملحوظاً في الفترة الأخيرة. وتوجت هذه المصالحة بزيارات مرتقبة رفيعة المستوى و إمكانية توقيع اتفاقيات تعاون في مجالات متعددة، أبرزها الطاقة والأمن.
ويرى محللون أن هذا التقارب الفرنسي-الجزائري قد يكون أحد العوامل المؤثرة في تشدد الموقف الجزائري تجاه مالي. فبعد خروج القوات الفرنسية من مالي وفقدان باريس لنفوذها المباشر هناك، يُرجح أن تكون فرنسا قد طلبت من الجزائر ممارسة ضغوط على الحكومة الانتقالية المالية كجزء من استراتيجية أوسع لاستعادة النفوذ الفرنسي في منطقة الساحل.
ويدعم هذه الفرضية التغير الملحوظ في الخطاب الجزائري الرسمي تجاه مالي، حيث أصدرت الحكومة الجزائرية بياناً وصفت فيه المشروع العسكري في مالي بـ”الفشل الذريع”، وقالت إن مزاعم الحكومة المالية ضد الجزائر هي “محاولات بائسة ويائسة لصرف الأنظار عن الفشل الذريع للمشروع الانقلابي الذي لا يزال قائما والذي أدخل مالي في دوامة من اللا أمن واللا استقرار والخراب والحرمان.”
هذه اللغة الحادة غير المعهودة في الخطاب الدبلوماسي الجزائري تجاه دول الجوار تشير إلى تحول استراتيجي مرتبط على الأرجح بالمصالح الجديدة المتقاطعة مع فرنسا، التي تسعى لاستعادة مكانتها في منطقة ظلت تاريخياً منطقة نفوذ فرنسية.
تداعيات الصراع على الأمن الإقليمي
لا تقتصر أبعاد الأزمة على العلاقات الثنائية بين البلدين، بل تمتد لتشمل الأمن الإقليمي في منطقة الساحل بأكملها. فقد انضمت مالي إلى “اتحاد دول الساحل” مع النيجر وبوركينا فاسو، وهو تحالف يجمع ثلاث دول حكمتها انقلابات عسكرية، وتبنت جميعها سياسة معادية للوجود الغربي في المنطقة.
وقد أصدر مجلس رؤساء دول اتحاد الساحل بياناً مشتركاً ضد الجزائر، متهماً إياها بالانحياز إلى جانب فرنسا ضد مصالح شعوب المنطقة. وفي المقابل، تتهم الجزائر هذه الدول بإيواء الجماعات الإرهابية التي تهدد أمنها القومي، وترى في التوجه الروسي الجديد لهذه الدول تهديداً لدورها التقليدي.
وفي ظل هذا التصعيد المتبادل، يخشى مراقبون من تطور الأزمة إلى مواجهة مباشرة، خاصة مع وجود توترات حدودية وخلافات حول إدارة الموارد المشتركة وقضايا الهجرة. كما أن هناك مخاوف من استغلال الجماعات الإرهابية لهذه الخلافات لتعزيز وجودها في المناطق الحدودية بين البلدين.
موقف الجزائر والتناقضات الداخلية
تجد الجزائر نفسها في موقف صعب؛ فمن ناحية، تسعى للحفاظ على علاقاتها المتحسنة مع فرنسا وأوروبا لما لها من أهمية اقتصادية واستراتيجية، خاصة في مجال الطاقة والاستثمارات. ومن ناحية أخرى، تريد الحفاظ على دورها المؤثر في منطقة الساحل.
هذا التناقض ينعكس في تصريحات المسؤولين الجزائريين؛ فبينما يتحدث الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون عن “احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية” كمبدأ راسخ في السياسة الخارجية الجزائرية، تصدر وزارة الخارجية بيانات تنتقد بشدة خيارات الحكومة المالية وتتهمها بتهديد الأمن الإقليمي.
وقد أدى هذا التناقض إلى انتقادات داخلية للسياسة الخارجية الجزائرية، حيث يرى بعض المحللين والأحزاب المعارضة أن الجزائر تخلت عن موقفها المبدئي الرافض للتدخل الأجنبي في المنطقة، وأصبحت تتشابك سياسيا مع فرنسا بعد أن كانت تدعو دائماً إلى “الحلول الأفريقية للمشاكل الأفريقية”.
استراتيجية فرنسا في المنطقة
تسعى فرنسا بعد خروجها العسكري من مالي إلى إعادة تموضعها في منطقة الساحل عبر استراتيجية جديدة تقوم على تعزيز العلاقات مع دول الجوار، وفي مقدمتها الجزائر. وتعتبر باريس أن النفوذ الروسي المتزايد في المنطقة يشكل تهديداً لمصالحها الاقتصادية والاستراتيجية، خاصة في قطاعات التعدين والطاقة.
وتبدو المصالحة الفرنسية-الجزائرية في هذا السياق وكأنها جزء من استراتيجية فرنسية أوسع لتطويق النفوذ الروسي في أفريقيا عموماً، ومنطقة الساحل خصوصاً. فالجزائر، بحكم موقعها الجغرافي، تمثل حليفاً استراتيجياً مهماً لفرنسا في هذه المعركة الجيوسياسية الجديدة.
مستقبل العلاقات ومسارات محتملة
مع استمرار التصعيد بين البلدين، تبرز ثلاثة مسارات محتملة للأزمة الجزائرية-المالية:
المسار الأول: استمرار التصعيد ووصول الأزمة إلى مواجهة محدودة، خاصة في المناطق الحدودية، مع احتمال قيام الجزائر بفرض حصار اقتصادي على مالي، وهو ما سيؤدي إلى تفاقم الأزمة الإنسانية في البلد الذي يعاني أصلاً من تدهور اقتصادي وانعدام أمن غذائي.
المسار الثاني: تدخل وساطات إقليمية ودولية لاحتواء الأزمة، خاصة من قبل دول مثل موريتانيا التي تحتفظ بعلاقات جيدة مع الطرفين، أو منظمات مثل الاتحاد الأفريقي. وقد يؤدي هذا إلى تهدئة مؤقتة للتوتر دون حل جذري للخلافات العميقة.
المسار الثالث: إعادة النظر في السياسة الجزائرية تجاه مالي، خاصة إذا ما استمر الضغط الداخلي من النخب والأحزاب السياسية الرافضة للتماهي مع السياسة الفرنسية.
خاتمة
إن تطور العلاقات الجزائرية-المالية في ظل التقارب الفرنسي-الجزائري يقدم نموذجاً واضحاً لتشابك المصالح الجيوسياسية في منطقة الساحل الأفريقي، ويكشف عن استمرار تأثير القوى الاستعمارية السابقة في تشكيل العلاقات البينية بين دول المنطقة. كما يسلط الضوء على التحديات التي تواجه الدول الأفريقية في صياغة سياسات خارجية مستقلة في ظل الصراع الدولي على النفوذ في القارة.
ومهما كان مستقبل هذه الأزمة، فإن تداعياتها ستتجاوز البلدين لتؤثر على مستقبل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل بأكملها، وربما تعيد تشكيل التحالفات الإقليمية خلال السنوات القادمة.