أطلقت السفارة الألمانية في تونس مؤخراً دعوة لتقديم مقترحات موجهة لمنظمات المجتمع المدني التونسية ذات التوجه الاجتماعي، وذلك في إطار “صندوق التنمية للجميع 2025”. ويأتي هذا الإعلان كامتداد لسياسة التعاون الألماني المستمرة مع تونس، حيث تقوم حكومة جمهورية ألمانيا الاتحادية بشكل سنوي بتخصيص صندوق للمنح المالية الموجهة للمشاريع التي تنفذها الجمعيات التونسية بهدف معلن هو مكافحة الفقر وتحسين ظروف معيشة الفئات الأكثر هشاشة.
وبالرغم من الخطاب الرسمي الذي يروّج لهذه المبادرة باعتبارها آلية “سريعة ومرنة” لتمويل المشاريع التي تستجيب للاحتياجات الأساسية للفئات المحرومة اقتصادياً واجتماعياً، إلا أن التدقيق في شروط التمويل يكشف عن منظومة متكاملة من المتطلبات التي تعكس أجندة محددة سلفاً. فمن بين المجالات التي يُشترط أن تندرج تحتها المشاريع المقترحة، تبرز بشكل لافت مسألة “القضاء على أسباب عدم المساواة بين الجنسين”، مع التشديد على ضرورة أن يراعي أي مشروع “نهج النوع الاجتماعي”. هذا التركيز الخاص يثير العديد من التساؤلات حول مدى ملاءمة هذه الشروط للسياق المحلي التونسي وأولوياته التنموية الحقيقية، خاصة في ظل التحديات الاقتصادية والاجتماعية الملحة التي تواجهها البلاد.
وتتجلى إشكالية الرقابة والتوظيف الإعلامي بشكل واضح في اشتراط السفارة الألمانية إخضاع المشاريع الممولة “لتقييمات ميدانية وضوابط إدارية” مكثفة، مع إلزام الشركاء بتقديم تقارير دورية حول سير العمل. والأكثر إثارة للتساؤل هو البند الذي يفرض موافقة الشركاء المتعاقدين على “استخدام المشروع في إطار العلاقات العامة للسفارة”، وهو ما يمكن أن يحول المبادرات المحلية النابعة من احتياجات المجتمع التونسي إلى مجرد أدوات للدعاية والترويج للسياسة الخارجية الألمانية في المنطقة.
أما من ناحية المجالات المستهدفة، فرغم تنوعها الظاهري لتشمل قضايا مثل حماية البيئة والطاقات المتجددة والتعليم والتدريب المهني وتحسين البنية التحتية والخدمات الصحية وخلق فرص العمل، بما يتوافق مع أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة، إلا أن الإصرار على إدراج مسائل “النوع الاجتماعي” كشرط أساسي يثير تساؤلات مشروعة حول استخدام المساعدات التنموية كأداة لنشر قيم ومفاهيم قد لا تتناسب بالضرورة مع الخصوصيات الثقافية والاجتماعية للمجتمع التونسي، الذي له أولوياته وتحدياته الخاصة.
وهكذا، وفي الوقت الذي يمكن فيه النظر إلى هذه المبادرة على أنها فرصة للجمعيات التونسية للحصول على موارد مالية لمشاريعها الاجتماعية، فإن جملة الشروط المفروضة والرقابة المشددة والاستغلال الإعلامي للمشاريع، تدفع جميعها إلى التساؤل المشروع حول مدى استقلالية القرار التنموي التونسي وإمكانية تحوله، دون وعي، إلى مجرد تنفيذ لرزنامة خارجية لا تعكس بالضرورة المصلحة الوطنية بقدر ما تخدم مصالح الجهات المانحة وسياساتها في المنطقة.
إن هذه المقاربة تطرح إشكالية جوهرية تتعلق بطبيعة المساعدات الخارجية وديناميكيات العلاقة غير المتكافئة بين الجهات المانحة والمتلقية، وتستدعي إعادة النظر بشكل عميق في آليات التعاون الدولي وشروطه، بما يكفل احترام السيادة الوطنية والأولويات المحلية والخصوصيات الثقافية للمجتمعات. ولعل المطلوب اليوم هو تطوير مقاربة نقدية واعية للتعامل مع مثل هذه المبادرات، تستفيد من فرصها المتاحة دون الانسياق وراء أجنداتها المضمرة، وتضع المصلحة الوطنية التونسية فوق كل اعتبار.
المصدر : https://tunis.diplo.de/tn-fr/ambassade/2576970-2576970?enodia=eyJleHAiOjE3NDA3ODEzMTQsImNvbnRlbnQiOnRydWUsImF1ZCI6ImF1dGgiLCJIb3N0IjoidHVuaXMuZGlwbG8uZGUiLCJTb3VyY2VJUCI6IjE5Ny4yOC4xODQuMTMwIiwiQ29uZmlnSUQiOiI4ZGFkY2UxMjVmZDJjMzkzMmI5NDNiNTJlOWQyY2Q2NTA1NzU0ZTE2MjIxMmEyY2UxYmI1YWYxNWMwZDRiYmZlIn0=._ix3llhnECtCFYWnj2SdMP4z2xHshGFbbYBNGgGQRW4=