في قصة تبدو أقرب للرواية المثيرة، يظهر أبو محمد الجولاني كشخصية محورية في المشهد السوري المعقد، متحولًا من شاب مغمور إلى أحد أخطر القادة العسكريين الذين هددوا نظام بشار الأسد.
ولد أحمد الشرع، المعروف بـ”الجولاني”، في عام 1982 في المملكة العربية السعودية لعائلة سورية متعلمة، حيث كان والده حسين الشرع خبيرًا اقتصاديًا يساريًا يحمل تصورات متقدمة عن الدولة المدنية والديمقراطية. استقرت العائلة لاحقًا في أحد أرقى أحياء دمشق، مما يعكس خلفية اجتماعية ميسورة.
انطلق الجولاني في رحلته العسكرية مبكرًا، حيث توجه في سن 21 للقتال في العراق بعد الغزو الأمريكي، متأثرًا بخطاب الجهاد المنتشر آنذاك. هناك التحق بتنظيم القاعدة وتعرض للاعتقال في سجن أبو غريب، حيث صقلت تجربته السجنية شبكة علاقاته مع أنظمة “إسلامية” مسلحة.
في خضم الفوضى التي أعقبت الثورة السورية عام 2011، وجدت التنظيمات المتطرفة فرصتها للتمدد والانتشار. كان أبو محمد الجولاني أحد أبرز من استغل هذه الظروف، مؤسسًا خلية صغيرة في دير الزور سرعان ما تحولت إلى قوة عسكرية مؤثرة.
بدأت الرحلة بإرسال من البغدادي في العراق، حيث اختار الجولاني استراتيجية ذكية للتوسع. بدأ بكسب ود الناس من خلال توزيع المساعدات الغذائية في المناطق النائية، مستخدمًا الخبز وأسطوانات الغاز كوسيلة للتقرب من السكان المحليين.
في جانفي 2012، أعلن الجولاني تأسيس “جبهة النصرة لأهل الشام”، متستراً وراء خطاب “إسقاط النظام” و الدعوة للجهاد. نجح في جذب مقاتلين سوريين وأجانب، مستفيدًا من حالة الغضب والفوضى.
حققت الجبهة انتشارًا سريعًا من خلال عمليات نوعية، أبرزها اقتحام مبنى أركان الجيش في دمشق في ديسمبر 2012، والتي أثارت رعب السلطات. كما بنى الجولاني شبكة إعلامية متطورة لنشر بياناته وعملياته.
في ديسمبر 2012، صنفت الخارجية الأمريكية “جبهة النصرة” كمنظمة “إرهابية”، وفي ماي 2013 أعلنت حجز ممتلكات الجولاني ومنع التعامل معه. رغم التصنيفات والملاحقات، نجح الجولاني في تحويل خلية صغيرة إلى تنظيم يُزعج سوريا، مستفيدًا من الفوضى وغياب الدولة، وموظفًا استراتيجيات متطورة للانتشار والبقاء.
عقوبات أميركية تطال الجولاني :
فرضت الولايات المتحدة وهيئات دولية عدة عقوبات صارمة على أبو محمد الجولاني، زعيم “هيئة تحرير الشام”، متهمة إياه بارتكاب انتهاكات جسيمة في سوريا. أدرجت لجنة العقوبات التابعة لمجلس الأمن الدولي الجولاني ضمن قائمة “الإرهابيين المحظورين”، مع فرض تجميد دولي وحظر للسفر وتقييد للأسلحة. وبررت العقوبات الأميركية هذا الإجراء بـ”الرؤية الطائفية العنيفة” للتنظيم، مؤكدة أن هدفه النهائي هو إسقاط النظام السوري وإقامة دولة إسلامية تخدم أجندات تنظيم القاعدة.
اتهمت الولايات المتحدة التنظيم بمسؤولية مجازر ضد المدنيين، منها المجزرة التي راحت ضحيتها 20 مدنياً في قرية قلب لوزة الدرزية شمال سوريا عام 2015. وفي خطوة لافتة، عرض برنامج “مكافآت من أجل العدالة الأميركي” مكافأة تصل قيمتها إلى 10 ملايين دولار مقابل معلومات عن الجولاني.
كما وثقت منظمات حقوقية سلسلة من الانتهاكات الممنهجة التي مارستها “هيئة تحرير الشام”، شملت اعتداءات عشوائية واعتقالات تعسفية وعمليات تعذيب. أكدت لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة تورط الهيئة في انتهاكات جسيمة منذ عام 2012، مع ذروة للحوادث في عام 2014. و في تطورات حديثة خلال عام 2024، قمعت الهيئة احتجاجات سلمية في إدلب، ووثق نشطاء عمليات خطف واعتقال واستهداف للمحامين والكتّاب والصحافيين.
في المقابل، نفى الجولاني هذه الاتهامات، مؤكداً في مقابلات إعلامية أن المعتقلين هم “عملاء للنظام” أو “عملاء روس” أو أعضاء في تنظيم داعش. ورفض تماماً وجود أي تعذيب، ودعا منظمات حقوق الإنسان لزيارة سجونه.
تحولات الجولاني: من زعيم إرهابي إلى مشروع سياسي؟
رسم أبو محمد الجولاني مسارًا معقدًا في الصراع السوري، بدءًا من تأسيس “جبهة النصرة” كفرع لتنظيم القاعدة، مرورًا بالانشقاق عن “داعش”، وصولًا إلى تحولاته الأخيرة في إدارة “هيئة تحرير الشام”.
بدأت رحلة الجولاني عندما رفض دمج تنظيمه مع “داعش” عام 2013، معلنًا مبايعته للظواهري زعيم القاعدة. وفي منعطف مهم عام 2016، أعلن فك ارتباطه بالقاعدة وتغيير اسم التنظيم إلى “جبهة فتح الشام”، مبررًا ذلك برغبة “أهل الشام” في تجنب القصف الدولي.
نجح الجولاني تدريجيًا في توسيع نفوذه، مستحوذًا على مناطق واسعة في شمال غرب سوريا، وخاصة إدلب. أسس “حكومة الإنقاذ” في نوفمبر 2017 لإدارة القطاعات المدنية، وأقصى فصائل المعارضة المنافسة.
في تحول لافت، بدأ الجولاني يتبنى خطابًا مختلفًا، مستهدفًا كسب ود الأقليات. خلال السيطرة على حلب، أصدر بيانات تطمينية للعلويين والمسيحيين، مؤكدًا على التعايش والتسامح. يرى الخبراء أن الجولاني يحاول إعادة تقديم نفسه. يقول جوشوا لانديز وهو أكاديمي أمريكي متخصص في الشرق الأوسط وخبير في سوريا إنه “أكثر ذكاء من الأسد”، حيث غيّر أدواته ومظهره وعقد تحالفات جديدة. في المقابل، يرى آرون لوند أنه لا يزال “متشددًا”.
رغم تصنيفه كـ”إرهابي” من قبل الأمم المتحدة والولايات المتحدة، يبدو الجولاني واثقًا، متجولًا بحرية في المناطق التي يسيطر عليها، وملوحًا بمشروع “وطني” غامض.
في مقابلته الأخيرة مع CNN، دعا الناس للحكم على أفعاله لا كلامه، لكنه تجنب توضيح شكل النظام السياسي المستقبلي، مكتفيًا بوصفه بـ”دولة مؤسسات”.
يبقى السؤال معلقًا: هل يمثل الجولاني تحولًا حقيقيًا أم مجرد تكتيك سياسي؟ يظل السوريون منقسمين بين مؤيد و متشكك في مشروعه المتغير.