- التحول التاريخي للصين: من ماو إلى دنغ شياو بينغ (1983-1990)
شهدت الصين في حقبة ما بعد ماو تسي تونغ، تحت قيادة دنغ شياو بينغ، مرحلة تاريخية فاصلة تميزت بسياسة الانفتاح والإصلاح الاقتصادي. فمع تولي دنغ شياو بينغ القيادة عام 1983، بدأت الصين عملية تحديث شاملة مثلت قطيعة مع النهج الماوي، مع الحفاظ على المحافظة الاجتماعية.
وقد لخصت مقولته الشهيرة “لا يهم إن كان القط أسود أم رمادياً، المهم أن يصطاد الفئران” الفلسفة البراغماتية للعهد الجديد. فقد نجح في الموازنة بين الحفاظ على بعض جوانب الأيديولوجية الماوية وتشجيع تحرير الاقتصاد الصيني. وشكل هذا التحول المعرفي تخلياً جزئياً عن المبادئ الماوية لصالح دمج تدريجي للصين في الاقتصاد العالمي.
وأدخل دنغ إصلاحات جوهرية عُرفت باسم “التحديثات الأربعة” شملت:
– القطاع الزراعي
– القطاع الصناعي
– الدفاع الوطني
– العلوم والتكنولوجيا
هدفت هذه الإصلاحات إلى تحويل الصين إلى قوة صناعية حديثة. كما أعاد دنغ الاعتبار للمثقفين الذين تم تهميشهم في عهد ماو، وركز على تطوير البنية التحتية الاقتصادية من خلال إنشاء المناطق الاقتصادية الخاصة، التي أصبحت مراكز جذب للاستثمارات الأجنبية.
وفي هذا السياق، شهدت العلاقات الصينية-الأمريكية تطوراً ملحوظاً، حيث تبنى دنغ نهجاً براغماتياً تجاه الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، مع الحفاظ على موقف أيديولوجي مناهض للهيمنة. وبدأت الصين تلعب دوراً مهماً على الساحة الدولية، خاصة مع اندماجها المتزايد في التجارة العالمية.
وتمثل هذه المرحلة نقطة تحول محورية في تاريخ الصين الحديث، حيث نجح دنغ شياو بينغ في قيادة عملية تحديث طموحة مع الحفاظ على الاستقرار السياسي والاجتماعي، مما مهد الطريق لصعود الصين كقوة اقتصادية عالمية.
2. صعود الصين كقوة تكنولوجية: هواوي في الطليعة
يُعد التطور التكنولوجي للصين أحد المفاتيح الرئيسية لصعودها كقوة عالمية. وتمثل شركة هواوي، التي أسسها رين تشنغفي، المهندس العسكري السابق، عام 1987، أحد أبرز نماذج هذا التفوق التكنولوجي الصيني.
فخلال عقود قليلة، تحولت هواوي إلى شركة عالمية تهيمن على سوق الاتصالات والهواتف الذكية العالمي، منافسة عمالقة مثل آبل وسامسونج. ويرجع هذا النجاح التكنولوجي بشكل كبير إلى الاستراتيجية الصينية في نقل التكنولوجيا عبر المناطق الاقتصادية الخاصة، حيث تُلزم الشركات الأجنبية العاملة في الصين بمشاركة خبراتها التكنولوجية مقابل امتيازات ضريبية ومزايا اقتصادية.
وقد استفادت هواوي من هذه السياسات لتصبح لاعباً رئيسياً في السوق العالمي، مدعومة بشكل استراتيجي من الدولة الصينية. وفي عام 2017، تجاوزت هواوي شركة آبل لتصبح ثاني أكبر مصنع للهواتف الذكية في العالم. كما امتدت هيمنتها التكنولوجية لتشمل البنية التحتية للاتصالات، وخاصة شبكات الجيل الخامس (5G).
ويعكس نجاح هواوي استراتيجية أوسع للدولة الصينية تهدف إلى تحويل الصين إلى مختبر رقمي عالمي. فصعود عمالقة التكنولوجيا الصينية مثل:
– هواوي
– بايدو
– علي بابا
– تنسنت
يوضح حجم التحول التكنولوجي للصين، التي أصبحت رائدة عالمية في قطاعات حيوية مثل:
– الموصلات
– الحوسبة السحابية
– الذكاء الاصطناعي
وتمثل هذه النجاحات تتويجاً لرؤية استراتيجية طويلة المدى وضعتها القيادة الصينية لتحويل البلاد من مصنع العالم إلى قوة تكنولوجية عظمى قادرة على المنافسة والابتكار في أحدث المجالات التقنية.
3. تصاعد التوتر بين الولايات المتحدة والصين: شركة هواوي كرمز للمنافسة الأمريكية-الصينية
شهدت العلاقات الأمريكية-الصينية تحولاً جذرياً خلال فترة إدارة دونالد ترامب، حيث تمحورت الحرب التجارية بين القوتين العظميين حول التكنولوجيا، وأصبحت شركة هواوي في مركز العاصفة. وجهت الولايات المتحدة اتهامات خطيرة لهواوي، معتبرة إياها تهديداً للأمن القومي الأمريكي، خاصة بسبب علاقاتها المزعومة مع جيش التحرير الشعبي الصيني ودورها المشتبه به في التجسس الصناعي.
بدأت العقوبات الأمريكية ضد هواوي في عام 2017 وتصاعدت بشكل كبير مع إدراج الشركة في القائمة السوداء لوزارة التجارة الأمريكية. هذا القرار حرم هواوي من الوصول إلى التقنيات الأمريكية الحيوية، بما في ذلك أشباه الموصلات ونظام أندرويد من جوجل.
يأتي استهداف هواوي ضمن استراتيجية أمريكية أوسع تهدف إلى:
– الحد من النفوذ الصيني في البنية التحتية العالمية للاتصالات
– السيطرة على تقنية الجيل الخامس (5G)، التي تعتبر ركيزة استراتيجية للأمن والسيادة الرقمية
– حماية مصالح الولايات المتحدة وحلفائها
لم تكتف إدارة ترامب بفرض العقوبات المباشرة، بل استخدمت أيضاً أدوات قانونية متعددة لإجبار الشركات الأوروبية على اتباع النهج الأمريكي، مستفيدة من التطبيق خارج الحدود الإقليمية للقانون الأمريكي. وقد مارست الولايات المتحدة ضغوطاً كبيرة على حلفائها الأوروبيين لمراجعة علاقاتهم مع هواوي، متذرعة بمخاوف تتعلق بالأمن القومي.
4. التداعيات في أوروبا: تباين الردود على النفوذ الصيني
وجدت أوروبا نفسها في موقف حرج في مواجهة العقوبات الأمريكية. فهي تسعى للموازنة بين مصلحتين متعارضتين:
– الحفاظ على علاقاتها التجارية مع الصين، أحد أهم شركائها الاقتصاديين
– الاستجابة للضغوط الأمريكية المتزايدة للحد من نفوذ هواوي في القارة، خاصة في مجال تقنية الجيل الخامس
وقد تباينت مواقف الدول الأوروبية تجاه هواوي بشكل ملحوظ:
المعسكر المتشدد:
– المملكة المتحدة: تراجعت عن قرارها الأولي بقبول هواوي في شبكة الجيل الخامس، واستجابت للضغوط الأمريكية باستبعاد الشركة الصينية من بنيتها التحتية الحيوية
– ألمانيا: أبدت شكوكاً جدية حول موثوقية هواوي، مستشهدة بمخاوف تتعلق بالأمن السيبراني
المعسكر المتساهل:
– إيطاليا و إسبانيا: تبنتا نهجاً أكثر مرونة، سامحتين لهواوي بالمشاركة في تطوير شبكات الجيل الخامس
– سويسرا و روسيا: فتحتا أبوابهما أمام استثمارات هواوي بشكل كامل
يكشف هذا التباين في المواقف الأوروبية عن:
– صعوبة تبني الاتحاد الأوروبي موقفاً موحداً في مواجهة النفوذ التكنولوجي الصيني المتنامي
– الضعف الهيكلي في منظومة الأمن الرقمي الأوروبية
– تحديات الحفاظ على التماسك الأوروبي في ظل التنافس الأمريكي-الصيني
– عجز أوروبا عن تنسيق استجابة مشتركة للتحديات التكنولوجية والجيوسياسية في عالم متعدد الأقطاب
5. هواوي والمنافسة الأمريكية-الصينية في أوروبا: توظيف البنية التحتية الحيوية
يمثل تنامي نفوذ شركة هواوي في أوروبا، وخاصة دورها المحوري في نشر شبكات الجيل الخامس، تحولاً جيوسياسياً جوهرياً في المشهد العالمي. فقد تحولت البنية التحتية للاتصالات إلى ساحة صراع استراتيجي بين القوتين العظميين، حيث برزت هواوي كلاعب رئيسي في هذه المواجهة. وقد عبرت أجهزة الاستخبارات الأمريكية والأوروبية عن مخاوف عميقة من المخاطر الأمنية المرتبطة بالشركة الصينية، متهمة إياها بالعمل لصالح الحكومة الصينية من خلال تسهيل عمليات التجسس والمراقبة الإلكترونية.
وفي هذا السياق، تحولت هواوي إلى أداة فعالة في الدبلوماسية الصينية، حيث استثمرت بكين أزمة جائحة كورونا لتعزيز نفوذها عبر ما عُرف بـ”دبلوماسية كورونا”. ونجحت من خلال هذه الاستراتيجية في توطيد علاقاتها مع عدة دول أوروبية، على رأسها إيطاليا، كما امتد نفوذها إلى مناطق أخرى كأفريقيا وأمريكا اللاتينية.
وتندرج هذه التحركات ضمن استراتيجية صينية عالمية أوسع، تهدف إلى توظيف الشركات التكنولوجية كأدوات نفوذ في الدول المستهدفة، وتعزيز مكانة الصين على الساحة الدولية. كما تسعى من خلالها إلى تحدي الهيمنة الأمريكية العالمية وبناء شبكة علاقات اقتصادية وتكنولوجية متينة تضمن مصالحها الاستراتيجية على المدى البعيد.
6. التطبيق خارج الحدود للقانون الأمريكي: أداة إكراه لمواجهة النفوذ الصيني
تعتمد الولايات المتحدة على مبدأ التطبيق خارج الحدود الإقليمية لقوانينها كأحد أقوى الأدوات لمواجهة نفوذ شركة هواوي في أوروبا. يتيح هذا المبدأ للولايات المتحدة فرض قوانينها خارج أراضيها، وخاصة في مجال العقوبات الاقتصادية. ولم يقتصر تطبيق هذا المبدأ على قضية هواوي فحسب، بل امتد ليشمل فرض عقوبات على شركات أوروبية تتعامل تجارياً مع إيران ودول أخرى خاضعة للحظر الأمريكي.
ومن خلال فرض عقوبات على هواوي، تُجبر واشنطن بشكل غير مباشر حلفاءها الأوروبيين على الامتثال لسياستها الخارجية. وبذلك تحول الترسانة القانونية الأمريكية إلى أداة ضغط فعالة تهدف إلى تحقيق هدفين رئيسيين:
- الحفاظ على النفوذ الأمريكي في أوروبا
- إعاقة الصعود التكنولوجي الصيني
الخاتمة: التنافس الصيني-الأمريكي، تهديد للوحدة الأوروبية
يُلقي الصراع المتصاعد بين الصين والولايات المتحدة بظلاله الثقيلة على القارة الأوروبية، مُحدثاً تداعيات عميقة على المستويات الاقتصادية والتكنولوجية والسياسية. ويتجلى النفوذ الصيني المتنامي في أوروبا بشكل واضح من خلال النجاح الملحوظ لشركة هواوي، مما يثير تساؤلات جوهرية حول قدرة الاتحاد الأوروبي على حماية سيادته واستقلاليته في مواجهة هاتين القوتين العظميين.
وفي ظل غياب استراتيجية أوروبية موحدة وفعالة، تواجه القارة الأوروبية خطر التحول إلى ساحة صراع جيوسياسي بين المصالح الأمريكية والصينية، مما قد يؤدي إلى تفكك وحدتها وإضعاف موقفها على الساحة الدولية.
كتبه صفوان نطاحي
المصادر :
FONTANEL Jacques, La globalisation en « analyse ». Géoéconomie et
stratégie des acteurs, Paris, L’Harmattan , 2005.
HARBULOT C.,La machine de guerre économique, Paris, Economica, 1992
MILES James, “Chinese Nationalism, US Policy and Asian Security” in
Survival, n°42 (4), hiver 2000, pages 51 à 71.